الوقت في الدماغ 












The Relict of Time لنيل فيربيكه (Nel Verbeke)، آلة حركة، التصوير الفوتوغرافي: ألكساندر بوبيلير (Alexander Popelier)، يدور نصف الكرة الصغير في منتصف الجسم الذي في الجدار على فترات منتظمة. وهذا يتسبب في سقوط كمية صغيرة من الغبار الأسود على الصفيحة النحاسية، مما يجعل الوقت ومروره مرئيًا على الآلة.






كيف يصنع عقلك الوقت ويشوهه

بقلم مارسيلينو لوبيز




 إن مجرد قضاء ساعة في ازدحام مروري قد تشعر وكأنه دهر، بينما يمر يوم الأحد الذي تقضيه في دعة وراحة مع أحبائك وكأنه ومضة ضوء. لماذا يمكن أن تعايش نفس المدة الزمنية بأشكال مختلفة؟ السبب في ذلك، أنه في كل مرة يتم إنشاء الوقت في عقلك بطريقة مختلفة.

الوقت شيء مجنون. ربما لا تشك في وجوده، ولكن لا يمكنك أبدًا مراقبته. فدائمًا ما يُنظر إلى الوقت في ذاته على أنه "الآن". ويمكنك استنتاج وجود الوقت فقط من حقيقة أن تصوراتك تتغير باستمرار ويمكنك تذكرها. فأنت تقرأ الآن هذه الجملة، وبعد ذلك ببرهة تقرأ الجملة التالية. وفي لحظة ما قد تُفكِّر في أمك، وفي اللحظة التالية قد تُفكِّر في موعدك التالي.

الوقت الذي تعايشه، يتم تجميعه في عقلك بطريقة بارعة. قد نأخذ شعورنا "الصحي" بالوقت كأمر مفروغ منه، لكنه في الواقع أمر استثنائي للغاية. لست بحاجة إلى ساعة أو تقويم لتحديد أنني أكتب هذا النص في وقت مبكر من صباح أحد أيام الربيع وأنني قد أمضيت 10 دقائق تقريبًا في كتابته. كيف يفعل دماغي هذا؟

إن الإحساس بالوقت عملية مُعقَّدة تتم في الدماغ، حيث تعمل أجزاء مختلفة من الدماغ معًا لتمنحك شعورًا متماسكًا بالوقت. وكل شخص يستخدم العقاقير المُخدِّرة يعرف بالضبط كيف يمكن تعطيل هذه العملية. بل الأكثر من ذلك، يمكن أن يختفي الإحساس بالزمن تمامًا تحت تأثير المخدرات.

هذا المقال المُكوَّن من جزأين. في الجزء الأول منه سوف نلقي نظرة على العوامل التي تخلق إحساسك بالوقت وتؤثر فيه: لماذا يبدو الأمر وكأن الوقت يمضي ببطء شديد عندما تكون غير سعيد، بينما تنقضي لحظات السعادة سريعًا كومضة ضوء؟ وفي الجزء الثاني، سوف نطرح تساؤلًا عما إذا كان بإمكاننا التلاعب بإحساسنا بالوقت بطريقة تجعلنا نشعر بأننا نقضي وقتًا أقل عندما نكون في حالة حزن ووقتًا أطول عندما نكون سعداء.


تقدير الوقت من دون ساعة
حتى علماء الفيزياء الأذكياء يجدون صعوبة في تحديد الوقت، ولكن لأغراض هذه المقالة، نحتاج فقط إلى التمييز بين الوقت الموضوعي والوقت النفسي. يمكننا قياس الوقت الموضوعي باتباع عقارب الساعة. وعندئذ يكون الوقت نفسه سواء بالنسبة لي أو لك. أما الوقت النفسي فيختلف تقديره من شخص لآخر، ويُعبِّر عن كيفية معايشة كل منا للوقت الموضوعي: وهو ما يُسمِّيه علماء النفس الإدراك الحسي للوقت. كيف يعرف عقلك كم من الوقت قد انقضى تقريبًا منذ اللحظة التي استيقظت فيها اليوم وحتى الآن؟

يتم تنظيم الكون كله، بما في ذلك جسمك، بواسطة إيقاعات دورية يمكن التنبؤ بها: الليل والنهار، والمد والجذر، والفصول الأربعة، والتنفس وضربات القلب، وإيقاع النوم والاستيقاظ. كل هذه الإيقاعات تعطينا مؤشرات على الوقت. وعلى وجه الخصوص، تساعدنا الساعة التي داخل أجسامنا المُكوَّنة من 24 ساعة - وهو ما يُسمَّى بإيقاع الساعة البيولوجية - في تحديد الوقت. ويتم التحكم في هذه الساعة البيولوجية بواسطة مساحة صغيرة في الدماغ تُسمَّى "تحت المهاد". حيث يُطلق "تحت المهاد" هرمونات مُعيَّنة ويُنظِّم ضغط الدم ودرجة حرارة الجسم ليدخلنا في حالة النوم والاستيقاظ والشعور بالجوع وفقًا لإيقاع مدته 24 ساعة.

الشيء المثير للدهشة هو أن إيقاع الساعة البيولوجية يُغطِّي في الواقع 24 ساعة و11 دقيقة، ولكن يتم تصحيح هذا الاختلاف من خلال عوامل أخرى مثل ضوء النهار. في التجارب التي يقضي فيها الأشخاص وقتًا طويلًا في مكان مغلق بدون إشارات طبيعية أو اصطناعية عن الوقت (مثل ضوء النهار أو الساعات)، تضطرب الساعة البيولوجية للشخص تمامًا وتنحرف عن مسارها. وفي هذا النوع من التجارب، يصل الناس في النهاية إلى إيقاع يومي تبلغ مدته 50 ساعة.

لتقدير مقدار الوقت المنقضي، يستخدم عقلك الساعة البيولوجية والإيقاعات الطبيعية كإطار مرجعي. علاوة على ذلك، فإن جميع الأحداث تكون مليئة بالمؤشرات حول طول المدة التي يستغرقها فعل أي شيء. فالمشي إلى السقيفة يستغرق عشر ثوانٍ، والاستماع إلى أغنية يستغرق ثلاث دقائق، والتمرين الرياضي مدته ساعة ونصف، والعطلة مدتها أسبوعان، وهكذا. يقارن عقلك بشكل حدسي الحدث (المشي إلى السوبر ماركت على سبيل المثال) مع إيقاعاتك الطبيعية والأحداث السابقة، مما يسمح لك بإجراء تقدير واقعي لمقدار الوقت المنقضي تقريبًا بالثواني والدقائق والساعات والأيام والأسابيع والسنوات.

لا تندهش حين تعرف أن هذه الطريقة البسيطة لتقدير الوقت المنقضي ليست دقيقة تمامًا مثل ساعتك، خاصةً عندما يتعلق الأمر بفترات زمنية أطول. وإليك بعض النتائج التي أظهرتها الأبحاث:

على سبيل المثال، عندما لا يكون الأشخاص على دراية تامة بذلك، فإنهم يُقدِّرون أن دقيقة كاملة قد انقضت بمجرد انقضاء 55 ثانية فقط. وغالبًا ما يكون تقديرهم هذا للدقيقة ثابت نسبيًا. أما التقديرات الأخرى، مثل تقدير انقضاء الساعة، فتكون أكثر تقلبًا وأقل دقة. خاصة إذا تم العبث بالساعة البيولوجية. فبعد قضاء وقت طويل في مكان معزول بدون أي إشارات عن الوقت، يصل الإيقاع اليومي للساعة البيولوجية للأشخاص المشاركين في التجربة إلى 50 ساعة، ويُقدِّرون الساعة الواحدة بساعتين كاملتين. وهو ضعف المدة الطبيعية في الظروف العادية. أما بالنسبة لتقديراتهم فيما يتعلق بزمن انقضاء الدقيقة فلا يتغير أي شيء.

إن إحساسك بالوقت لا يعتمد فقط على ما تراه - على سبيل المثال كالفرق بين مشاهدة فيلم مثير وحضور مُحاضرة مُملة - ولكن يعتمد أيضًا على الحالة التي يكون عليها جسمك وعقلك.

على سبيل المثال، تؤثر درجة حرارة جسمك بشكل كبير على طريقة تقديرك لانقضاء ساعة من الوقت. حيث تشير الأبحاث إلى أن بضع درجات أكثر أو أقل في درجة حرارة الشخص يمكنها أن تُسرِّع أو تُبطئ شعوره بالوقت بنسبة 20 في المائة. لهذا السبب، فإن المريض المُصاب بالحمى يعتقد أن الساعة الواحدة تمر بسرعة أكبر من المعتاد. قد يرجع هذا إلى أن سرعة العمليات الكيميائية في الجسم تؤثر على شعورنا بالوقت.

ويُعد تشوه الوقت الذي يحدث خلال حالات الأزمات الحادة مثالًا آخر على كيفية تشويه الوقت بصورة قوية. فالأشخاص الذين يتعرضون لحادث مروري يشعرون أحيانًا أن الثواني القليلة التي تسبق التصادم تمر كفترة طويلة جدًا. حيث إنه مع الاحتمال الذي يلوح في الأفق بالاصطدام الوشيك، يُنتج الجسم كمية كبيرة من الأدرينالين، مما يجعل العقل يعمل بشكل أسرع ويُسجِّل انطباعات أكثر في الثانية الواحدة عما هو معتاد. وعلى الجانب الآخر من الصورة، قد تُعايش تجارب لا يحدث فيها أي شيء مثير، كما هو الحال في الازدحامات المرورية. ففي تلك الحالات، يبدو الأمر وكأن الوقت يمر ببطء أكثر من المعتاد.

وفقًا للعلماء، إن الإحساس بالوقت يعمل كمنحنى على شكل حرف U. حيث يتباطأ الوقت أكثر في نهاية طرفي المنحنى - والتي تتألف من فترات مُحفِّزة للغاية أو منخفضة التحفيز للغاية. وبين هذين الطرفين، يمكنك الانطلاق من "القانون" التالي:

كلما ازداد ما يحدث في عقلك أو ما يحدث حولك، وكلما ازدادت المُحفِّزات وازداد استرعاء الاهتمام والوقت الذي يحتاجه عقلك لمعالجة الأمور، كلما بدا الوقت وكأنه يمر بشكل أسرع.














Brei Lamp من ورشة Atelier NL، التصوير الفوتوغرافي: باول سكالا (Paul Scala) يتكون عاكس الضوء من آلة حياكة يتم تشغيلها بمجرد تشغيل المصباح







مفارقة شعورنا بالوقت
عندما يحدث القليل من الأشياء أو لا يحدث أي شيء على الإطلاق، ينتابنا انطباع بأن الوقت يمر ببطء كبير. ففي البيئات الهادئة وفي الظلام، يبدو الأمر وكأن الوقت يمر ببطء أكبر مما هو عليه الحال بالفعل. وكلما ازداد اهتمامنا بالبيئة أو المُهمة المُوكلة إلينا، كلما بدا الأمر وكأن الوقت يمر بصورة أسرع.
إن معايشة تجارب جديدة والتواجد في بيئات غير مألوفة بالنسبة لنا يجعل الوقت يمر بصورة أسرع. فقط قارن بين قضاء عطلة نهاية الأسبوع في المنزل وقضاء عطلة نهاية الأسبوع في تلك المدينة غير المألوفة بالنسبة لك. يُعد المنزل مكانًا مألوفًا بالنسبة لك، لذلك يعمل عقلك بصورة تلقائية، في حين أن المدينة غير المألوفة تُعد مكانًا جديدًا بالنسبة لك وتتطلب انتباهك. ومع ذلك، فهناك أيضًا مفارقة في إحساسنا الوقت.

عادة ما يمر الوقت سريعًا عندما تقضي وقتًا مُمتعًا، ولكن عندما تقضي عطلة نهاية الأسبوع بعيدًا عن المنزل، يبدو الوقت وكأنه أطول من وقت قضاء عطلة نهاية الأسبوع على نحوٍ اعتيادي في المنزل. على أي حال، يتم تذكر الأحداث لاحقًا بشكل مختلف عن كيفية معايشتها وقت حدوثها. حيث
يبدو أن الوقت يمر بشكل أسرع عندما تستمتع بتجارب جديدة وتعايشها، ولكنك تتذكر هذا الوقت لاحقًا وكأنه أطول من المعتاد. كيف يحدث هذا؟ تشغل ذكريات عطلة نهاية الأسبوع المتوقعة في المنزل مساحة صغيرة من ذاكرتك لأنها تشبه جميع عطلات نهاية الأسبوع السابقة التي قضيتها في المنزل. ولكن عند قضاء عطلة نهاية الأسبوع في مكان جديد، تخلق ذاكرتك الكثير من الذكريات الجديدة، وهو ما ينتج عنه استخدام مساحة أكبر من ذاكرتك. القهوة، غرفة الفندق، موظف الاستقبال، الشوارع، الأشخاص الذين تراهم، كل شيء جديد بالنسبة لك. إن قضاء عطلة نهاية أسبوع كهذه في مكان بعيد لا يوفر فقط الكثير من المُحفِّزات الجديدة، ولكنك تشعر لاحقًا أن عطلة نهاية الأسبوع هذه قد استمرت لوقت أطول من المعتاد.

وهذا ما يفسر أيضًا السؤال التالي: "لماذا يبدو الأمر وكأن الوقت يمر بسرعة أكبر مع تقدمك في السن؟". عندما تكون شابًا، تشعر بأن العديد من التجارب التي تعايشها جديدة ومثيرة ومفيدة. ولكن كلما أصبح عمرك أكبر، وكلما عايشت تجارب أكثر، كلما كانت تلك التجارب أقل إثارة للاهتمام بالنسبة لذاكرتك. فذاكرتنا حساسة للتأثيرات التي تحمل ما هو جديد، وهو ما يُسمَّى بـ "تأثير الجدة". إذ نتذكر المُحفِّزات الجديدة والمختلفة على نحوٍ أفضل بكثير من تلك المألوفة والمعروفة بالفعل بالنسبة لنا.

هل تريد أن تكون أكثر سعادة "هنا" و"الآن"؟ مع خلق ذكريات سعيدة في هذه الأثناء؟ إذن ابحث عن الأنشطة التي تتطلب كل اهتمامك والتي تسمح لك بالتعلُّم أو تجربة شيء جديد في كل مرة. لقد اكتشف علماء النفس أن الناس يكونون أكثر سعادة عندما ينغمسون بكل جوانحهم في النشاط الذي يشاركون فيه. ويشير علماء النفس إلى هذه الحالة باسم "التدفق". ويُعد الرقص والرسم وركوب الأمواج مجرد أمثلة للأنشطة التي يمكن للناس من خلالها تجربة معايشة هذه الحالة "الخالدة". ينشأ "التدفق" عندما تُركِّز على هدفٍ يتطلب اهتمامك الكامل "هنا" و"الآن". يمنحك هذا التركيز القدرة على التوحد مع ما تفعله وأن تنسى أي إحساس بالوقت. ويتعلق الأمر هنا بالقيام بنشاط بدني أو ذهني يتناسب مع مهاراتك ويتطلب أقصى ما عندك. وبالتالي، لا يمكن وصف الأمر بأنه صعب للغاية. "التدفق" له نفس تأثير الكوكايين على العقل. وبالتالي، فإن الأشخاص الذين ينخرطون في مثل هذا النوع من الهوايات يمتلكون "أداة سعادة" قوية. حيث إن انصباب تركيزهم واهتمامهم بالكامل على شيء ما - ونسيانهم للوقت - يجعلهم سعداء.









مارسيلينو لوبيز (1974) هو عالم نفساني هولندي إسباني وكاتب ومُعالج. وقد كتب كتابين عن العلاقات في العصر الحديث، ويعكف حاليًا على كتابة كتاب نقدي حول فوائد وعيوب صناعة السعادة. وهو يهتم بالقضايا المعنوية والأخلاقية ويطرح رؤيته من خلال وسائل الإعلام المختلفة: المطبوعة، والإنترنت، والإذاعة، والتلفزيون.