الصبر










Places Cut Out of Coloured Paper لسنه فان دي خور (Sanne van de Goor)








غرفة الانتظار مستودع الكتل البلاستيكية والحديدية ومكعبات الأطفال


بقلم لاورينس لاندويرد 






غرفة الانتظار مكان غريب. فكل من يدخلها يجد نفسه مُجبرًا على الانصياع. ويكون مُلزمًا بالجلوس على مقاعد بلاستيكية مُتراصة بجانب بعضها ومتصلة فيما بينها بقضيب فولاذي. وعادة ما يشغل الركن الخالي من المقاعد لوح أبيض مصنوع من الخشب المضغوط أو لوح زجاجي، وعليه عدد من المجلات التي تحمل عناوين مثل الأطباء والسيارات (لئلا ننسى ما درسناه في الجامعة)، وصحيفة لأخبار الفضائح (المتعة المليئة بالذنوب)، ومجلة العم بطوط المبتذلة، وعدد قليل من المجلات النسائية. وعلى بلاط الأرضية الباردة سجادة خضراء عليها مجموعة غير مكتملة من مكعبات لعبة الليغو (بما في ذلك أشكال بيضاوية بعيون) يستخدمها الأطفال الصغار الذين يعطسون لبناء مُجسمات تخلو تمامًا من أي إبداع. والمصير الحتمي لأي تصميم معماري في هذا المكان هو الغسالة، على نحوٍ أكثر مما يحدث في المنزل، وهو الأمر الذي يفهمه جميع الأطفال ويدركونه جيدًا.

يستشعر الأشخاص الجالسون في غرفة الانتظار بالحرج؛ بسبب مرضهم، ولكن ربما بشكل يفوق حرجهم من مواجهتهم للآخرين. ناهيك عن مجموعة الترفيه المتهالكة لإلهاء الأطفال الصغار. وأحيانًا ترى البعض يصدرون همهمات غير مفهومة في محاولة منهم لتجاذب أطراف الحديث، ولكنهم في أغلب الوقت يسترقون النظر إلى الساعة المعلقة على الجدار، في حين تتحرك عقاربها ببطء كئيب وبلا أدنى إحساس بالرحمة. وهذا ما يدفعنا إلى الانصياع أكثر من أي وقت آخر.

الوقت ظاهرة يصعب التعبير عنها بالكلمات. وهو جزء جوهري من التجارب التي نعايشها. في عصرنا الحالي، الفكرة المهيمنة هي أن الوقت كمية قابلة للقياس. ومع إمكانية القياس هذه يزداد شعورنا بنفاد الصبر، فكل ساعة تمر من دون رؤية تكون عقيمة، وكل دقيقة دون القيام بفعل ما تكون ضائعة، وكل ثانية بلا حافز تكون مزعجة. وعلى الرغم من أننا جعلنا الوقت قابلًا للقياس، فإننا لا نعايشه بصورة يكون معها ثابتًا. فالطبيعة الكمية للزمن مُجرد وهم، وطبيعته الحقيقية تكون نوعية. فقد يمر عليك يوم حافل بالأحداث في طرفة عين، في حين تبدو عشر دقائق انتظار وكأنها دهر.

وحين يُفرض علينا الانتظار، تختلف تجربة معايشتنا للوقت من شخص لآخر. فحينها يتأرجح الإدراك بين الذكريات والخيال. وهما القطبان اللذان يشكلان إدراكنا للتغيير. حيث تحوِّل الذكريات والخيال معايشتنا للتغيير إلى "مرور عبر الزمن". ولكن عند ممارسة نشاط ما (كالمشي والكتابة وركوب الدراجات والطهي)، فإن هذين القطبين يتلاشيان. وذلك لأن الذكريات والخيال يتطلبان نوعًا من التأمل. وعندما ننخرط في نشاط ما، فإن التركيز ينصب كلية على العلاقة بين الجسم وبعض الأمور والأشياء الأخرى. وعند القيام بنشاط ما، تنشأ بيننا وبين الوقت علاقة خاصة. ويحدث ذلك بصورة تلقائية، فالعمل يبدد الشعور بالوقت. ومن ثمَّ، فإننا لا نظل عالقين بين إسقاط واقعنا الحالي على الماضي (من خلال الذكريات) وعلى المستقبل (من خلال الخيال).

وعند الانخراط في نشاط ما، يتبدد إدراكنا للوقت أيضًا. وذلك لأنه يكون قد تم سحبنا من "الآن" على نحوٍ مستمر. لقد تم استعمار العالم بالشاشات، حتى أن بعض مراحيض التبول الموجودة في المطاعم والفنادق تتضمن زرًّا حساسًا للضوء لتشغيل تدفق الماء مع شاشة مُدمجة تعرض إعلانات مصوَّرة باستمرار، وعلى طول الطرق السريعة توجد شاشات مسطحة عملاقة تخبرنا أين يمكننا شراء جزَّازات العشب. وإذا خلت البيئة الحياتية من هذه الأنواع من الصور، فإننا سرعان ما نلجأ إلى هواتفنا المحمولة بمجرد الدخول في ازدحام مروري أو عند الانتظار في طوابير محال بيع الخبز. كما تحتوي غرف الانتظار أيضًا على شاشات لصرف الانتباه. وفي غرفة الانتظار هذه، لا تزال هناك مجموعة متكدسة من المجلات، بالإضافة إلى صندوق المكعبات المثير للشفقة، وكما هو الحال مع صف المقاعد المثبتة على القضبان الحديدية، وكلها أشياء لم تعد تنتمي حقًا إلى عالمنا الحالي. ومن ثمَّ، نود لو أنها تُزال من هذا المكان، ولذا فإننا نلجأ للاختباء خلف شاشات هواتفنا، أكثر من حاجتنا إلى ذلك في القطار أو المصعد. لأننا لم نعد قادرين على التعامل مع هذه الطريقة السلبية لتحمل مرور الوقت.

إننا نقضي أوقات الانتظار وهواتفنا بأيدينا. وإذا كان الناس في عام 1950 يدخنون بشراهة كأنهم مداخن لقضاء الوقت في الطائرات ودور العرض وغرف الانتظار، فإنهم الآن ينتظرون بلا حراك إما أمام شاشاتهم الخاصة وإما أمام تلك المعروضة أمامهم. ولعل كبار السن غير الماهرين في التعامل مع البرامج الذكية هم الوحيدون الذين يحاولون التغلب على الخجل واختراق حاجز الإحراج. أما الآخرون فيجدونهم مصدر إحراج لهم في توجههم هذا. نحن نحدق في هواتفنا أو نحملق في الشاشات المُعلَّقة على الجدران. وباختصار، صارت غرفة الانتظار مكان مُقفرًا ومُوحشًا يتسم بالانعزالية أكثر من أي وقت مضى.

ويسبب المرض إزعاجًا للشخص فيما يتعلق بالمسار الطبيعي للشؤون اليومية. فالإصابة بالمرض تجبرك على إقامة علاقة مختلفة مع الوقت. ونحن نلتزم بهذه العلاقة بكل حواسنا ووجداننا. فإذا ذهب عنا المرض، كنا أسوأ ما يكون في التعامل مع الوقت. وإذا كان المرض في الماضي أمرًا قدريًا بيد الله، فإننا اليوم نتوقع تقديم خدمة يسهل التحكم بها وتتسم بالمسؤولية وتقديم الحلول، ويُفضل أن تكون بأقصى سرعة. ونظرًا لأن الرعاية الصحية، أيضًا، لم تعد "خدمة" بل "سوقًا"، لم يعد بوسعنا التعامل مع حالة عدم اليقين التي تفرضها علينا غرف الانتظار. وأصبح لدينا نمط مختلف من التوقعات. وفي ضوء ذلك، بالتأكيد لن يسهم صندوق المكعبات غير المكتمل والبائس إلا بأقل القليل في إرضاء المرضى. وحتى الرسائل التي تظهر على الشاشات والتي تخلو من أي مضمون لن تضيف إلا القليل لتجربة الانتظار هذه.

لقد تجاوزنا زمن الوضع ضمن قائمة الانتظار وصرنا غير معتادين على تلك الأجواء الهادئة لغرف الانتظار. نحن نتعرض للأشياء التي تُثيرنا في كل مكان، على الطرق السريعة وفي محال بيع الخبز وفي المكتبات الحكومية. ففي المكاتب الحكومية لا يكون بوسعنا دائمًا سوى تحديد موعد جديد. أما في محال بيع الخبز، فنكون على علمٍ بوقت النداء على رقمنا، وإذا كان الأمر سيستغرق كثيرًا، فيمكننا العودة لاحقًا. وفي الازدحامات المرورية، نستمع إلى الراديو أو إلى أي صوت آخر على أي حال. ولكن عند الانتظار للحصول على تشخيص أو لتلقي العلاج، فإن الشاشة لا تكاد تلعب سوى دور صغير لصرف الانتباه؛ لأن جُل انتباهنا يكون مُنصبًّا على عقارب الساعة.

وببساطة، فإن كون الإنسان مريضًا يحمل في طياته جوانب سلبية: فهي عملية انتظار لرد فعل الجسد. ويُقصد بكلمة "patient" باللغتين الإنجليزية والفرنسية: الصبر "القدرة على تحمل التأخير دون الشعور بالانزعاج أو القلق". والكلمة في أصلها مشتقة من الكلمة اليونانية pathos""، وتعني "المعاناة" أو "التحمل". ومن ثمَّ، فإن الشخص المريض "الصبور" هو الشخص الذي يتحمل أو يعاني، وليس الشخص الذي يتصرف ويقوم بالأفعال. وفي هذا الجانب، يتعارض هذا النموذج للعميل "المريض" مع الطبيعة الحقيقية للرعاية الصحية. حيث يمكن للعميل أن يحدد مطالبه وأن يستخدم معايير ذات جودة معينة، بل ويمكنه نقل أعماله إلى منافس حسب رغبته. أما المريض فلا يمتلك حرية الاختيار، ويُتوقع منه أن يضع كل ثقته في خبرة الطبيب وموظفي الرعاية: لأن التشخيص والعلاج أمران يخضع لهما كمتفرج سلبي.

الانتظار عنصر أساسي في عملية الرعاية الصحية. فرغم أن الجسد، بالتعاون مع الأطباء، يبذل قصارى جهده للتغلب على أمراضه، فإنه ليس بوسع العقل أن يفعل أكثر من مجرد لعب دور المتفرج السلبي. ومن ثمَّ، فإن أي علاج يتطلب الصبر. وبالنسبة إلى الطبيب، فإن الأمر لا يتعلق بالخدمة التي يؤديها، ولكنه يرتبط بنا نحن كأفراد. ومن هنا فإن كلمة "الانتظار" تحمل في طياتها معاني أكبر بكثير. وبدلًا من النظر إلى غرفة الانتظار باعتبارها مشكلة، فإن ما يتعين علينا القيام به هو الإحاطة بكامل معانيها. وإلا!! ففي أي مكان آخر يمكنك الانغماس في تأملاتك وتخيلاتك وذكرياتك؟ لذا، دعونا لا نستبدل مستودع الكتل البلاستيكية والحديدية ومكعبات الأطفال بالكامل بأفخاخ القرن الحادي والعشرين.







لاورينس لاندويرد (1976) هو فيلسوف يعمل كباحث في كلية العلوم بجامعة رادبود نايميخن. وهو يشغل أيضًا منصبًا في برنامج البكالوريوس متعدد التخصصات في أكاديمية الفنون بماستريخت. ويدور بحثه الحالي حول العلاقة بين مفهوم الوقت في العلوم الدقيقة والتجربة المباشرة. وستنشر دار نشر سبرنجر " Springer" كتابه الذي يحمل عنوان Time, Life & Memory "الوقت والحياة والذكريات" خلال العام القادم.